أَولى الأقوال في البروج بالصواب: أَن يقال: معنى ذلك: أبراج السماء. هذه السورة القصيرة تعرض ، حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني ..أموراً عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية – وأحياناً كل كلمة في الآية – أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقائق ..
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه هو حادث أصحاب الأخدود ... والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام – قيل إنهم من النصارى الموحدين – ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة ، أرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمسكوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقاً في الأرض . وأوقدوا فيه النار وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقاً ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة . ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق ، حريق الآدميين المؤمنين . ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) ...
تبدأ السورة بقسم : ( والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود .. ) فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه .. تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل .. مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها وانتصرت على النار والحياة ذاتها ، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعاً . والتلميح إلى بشاعة الفعلة وما يكمن فيها من بغي وشر ، إلى جانب الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين : ( النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) ..
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الايماني الأصيل :
إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره الله لكل ما يقع في السماوات والأرض : الله (الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد )
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة ، وإلى نعيم الجنة ... ذلك الفوز الكبير .. الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات – ثم لم يتوبوا – فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير )
وتلويح ببطش الله الشديد ، الذي يبدئ ويعيد : ( إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد ) ... وهي حقيقة تتصل اتصالا مباشرأًبالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة ..
وبعد ذلك بعض صفات الله . وكل صفة منها تعني أمراً ..
( وهو الغفور الودود ) الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هو البلسم المريح لمثل تلك القروح !
( ذو العرش المجيد. فعال لما يريد ) ... وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والإرادة المطلقة والقدرة المطلقة ..وكلها ذات اتصال بالحادث ... كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخده للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح ... ( هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود ؟ ) وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . ووراءهما – مع حادث الأخدود – إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لايشعرون : ( بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط ) ...
ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) .. مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور .
هذة لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد .
المصدر : في ظلال القرآن – سيد قطب .