في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء وهذه الحقيقة منوعة المظاهر ومظاهرها ذات لونين ، وذات اتجاهين ... كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء : ( والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى ) ..( وما خلق الذكر والانثى )...وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني . ويقسم الله – سبحانه - بهاتين الآتين : الليل والنهار . مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد .(والليل إذا يغشى ) ..( والنهار إذا تجلى ) .
يقسم الله بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس ، على أن سعي الناس مختلف وطرقهم مختلفة ومن ثم فجزاؤهم مختلف كذلك ، فليس الخير كالشر ، وليس الهدى كالضلال ، وليس الصلاح كالفساد ، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى ، وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى . وأن لكل طريقاً ، ولكل مصيراً ، ولكل جزاء .
( إن سعيكم لشتى ) ..إنه مختلف في حقيقته . مختلف في بواعته ، مختلف في اتجاهه ، مختلف في نتائجه .
( من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) ..و( من بخل واستغنى وكذب بالحسنى )
من أعطى نفسه وماله . واتقى غضب الله وعذابه . وصدق بهذه العقيدة (الحسنى ) . فهو يستحق عون الله وتوفيقه . ومن بخل بنفسه وماله . واستغنى عن الله وهداه وكذب (بالحسنى ) .فهو يستحق أن يعسر الله عليه كل شيء ويجعل له في كل خطوة مشقة . وكل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها ! إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى .
وفي المقطع الثانى فيتحدت عن مصير كل فريق . ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى ، ومن ومن يسره للعسرى . وقبل كل شيء يقرر أن ما يلاقيه كل فريق من عاقبة ومن جزاء فهو عدل وحق . فقد بين الله للناس الهدى ، وانذرهم ناراً تلظى .
(إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى . فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى الذى كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى ، الذى يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى )
( إن علينا للهدى ) لقد كتب الله على نفسه – فضلاً منه بعباده ورحمة – أن يبين الهدى لفطرة الناس ووعيهم . وأن يبين لهم كذلك بالرسل والرسالات والآيات ، فلا تكون هناك حجة لأحد ، ولايكون هناك ظلم لأحد .
( وإن لنا للآخرة والأولى ) ..فأين يذهب من يريد أن يذهب عن الله بعيداً ؟!
( وسيجنبها الأتقي ، الذي بؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء وجه .ربه الأعلى )
(الأتقى ) هو الأسعد مقابل الأشقى وهو الذي ينفق ماله ليتطهر بإنفاقه ، لاليرائي به ويستعلى . ينفقه تطوعاً لارداً لجميل أحد ، ولاطلباً لشكران أحد ، وامنا ابتغاء وجه ربه خالصاً..ربه الأعلى .
( ولسوف يرضى ) . إنه الرضى ينسكب في قلب الأتقى . إنه الرضى يغمر روحة . إنه الضى يقيض على جوارحه .إنه الرضى يشيع في كيانه . إنه الرضى يندي حياته ...إنها مفأجأة في موضعها هذا .
المصدر : في ظلال القرآن – سيد قطب .